الهدم في وادي الحمّص: الأمن هو الذّريعة والاستراتيجيّة هي التفوّق الديمغرافيّ اليهوديّ
في صباح هذا اليوم الإثنين 22.7.19 - باشرت السّلطات الإسرائيليّة هدم عدد من المباني في حيّ وادي الحمّص وهو الامتداد الشرقيّ لصور باهر في شرقيّ القدس. يحدث ذلك بعد أن ردّت محكمة العدل العليا التماس السكّان وأقرّت أنّه قانونيًّا ولا يوجد ما يمنع تنفيذ الهدم. بالمجمل، تعتزم إسرائيل هدم 13 مبنًى تشمل ما لا يقلّ عن 44 منزلًا معظمها قيد الإنشاء في مراحل مختلفة. في المباني التي هُدمت صباح اليوم تسكن أسرتان تعدّان 17 نفرًا من بينهم 11 قاصرًا - جميعهم الآن باتوا مشرّدين بلا مأوى. بعض المباني المهدّدة بالهدم أقيم في مناطق A وفق تراخيص بناء أصدرتها السّلطة الفلسطينيّة من حيث أنّها تملك صلاحيّات التخطيط في هذه المناطق.
أبقي حيّ وادي الحمّص في "الجَيْب" الواقع خارج الحدود البلديّة لمدينة القدس - وهي حدود وضعتها إسرائيل في عام 1967 في خطوة أحاديّة الجانب - طمعًا في ضمّ أكبر مساحة ممكنة من أراضي الضفة الغربيّة إلى حدود دولة إسرائيل وبأقلّ عدد ممكن من الفلسطينيّين. يشكّل هذا الحيّ احتياطي الأرض الأساسيّ لتطوير صور باهر مستقبلًا. وفقًا لتقديرات لجنة صور باهر يسكن في الحيّ اليوم نحو 6,000 شخص حوالي رُبع مجمل سكّان منطقة صور باهر.

في عام 2003 رفعت لجنة صور باهر التماسًا إلى محكمة العدل العليا ضدّ مسار جدار الفصل - وهو أيضًا حدّدته إسرائيل في خطوة أحاديّة الجانب على النحو الذي يخدم مصالحها. كان يُفترض أن يحاذي مسار الجدار الحدود البلديّة لمدينة القدس بحيث يعزل جميع منازل حي وادي الحمّص عن صور باهر؛ ولكنّ الدولة وافقت في أعقاب الالتماس على إزاحة المسار شرقًا بضعة مئات من الأمتار داخل أراضي الضفّة الغربيّة.
في العامين 2004 و2005 بُني جدار الفصل في هذه المنطقة بصيغة مقلّصة نسبيًّا: بدلًا من سور من الإسمنت كما في معظم مسار الجدار في شرقيّ القدس أقامت إسرائيل شارع دوريّة بمسارين ورصيفين واسعين وسياجًا إضافيًّا. ورغم أنّ حيّ وادي الحمّص قائم على أراضٍ لم تضمّها إسرائيل إلى مسطّح مدينة القدس يطوّق السّياج الحيّ الذي وإن كان لم يُعزل عن صور باهر إلّا أنّه عُزل عن بقيّة أراضي الضفّة الغربيّة بسبب بناء الجدار.
أنشأت إزاحة مسار الجدار تعقيدات بيروقراطيّة مستعصية يواجهها سكّان وادي الحمّص، علمًا أنّ جزءًا منهم يحمل بطاقة مقيم دائم في إسرائيل وبعضهم الآخر بطاقات هويّة الضفة الغربيّة. تعترف إسرائيل اليوم - في أعقاب رفع الالتماس إلى محكمة العدل العليا - بجميع سكّان وادي الحمّص كمن يستحقّون التأمين الصحّي والتأمين الوطني، كما بقيّة سكّان القدس ذوي مكانة مقيم دائم. ولكنّ المحكمة العليا قبلت موقف الدولة المقدّم في التماس آخر والذي ادّعت فيه أنّ السكّان الذين يحملون بطاقات هويّة الضفة الغربيّة لا يستحقّون مكانة مقيم دائم وعليه فهُم ملزمون بتجديد تصاريح المكوث كلّ ستّة أشهر - تصاريح مكوث في منازلهم!.

أراضي حيّ وادي الحمّص لا تعتبَر جزءًا من مدينة القدس ولذلك لا تقدّم البلديّة هناك أيّة خدمات سوى إزالة النفايات. من جهة أخرى، لا تملك السّلطة الفلسطينيّة قدرة للوصول إلى الحيّ وبالتالي لا يمكنها تقديم أيّة خدمات هناك سوى التخطيط والترخيص في الأطراف الجنوبيّة الشرقيّة للجَيب - من حيث أنّه جرى تصنيفها في اتّفاقيّات أوسلو ضمن مناطق A و- B التي تملك السلطة الفلسطينية فيها صلاحيّة التخطيط وإصدار ترخيص البناء. معظم مساحة "الجَيْب" مصنّفة ضمن المنطقة C حيث الإدارة المدنيّة هي المسؤولة عن التخطيط والبناء لكنّها تمتنع عن إعداد خرائط هيكليّة تتيح البناء هناك، كدأبها في بقيّة أنحاء الضفة الغربيّة.
السّياسة الإسرائيليّة التي تمنع بشكل شبه تامّ البناء الفلسطينيّ في شرقيّ القدس تسبّب أزمة سكنيّة حادّة يعاني سكّان المدينة الفلسطينيّون ضائقة شديدة جرّاءها فلا يبقى أمامهم خيار سوى البناء بدون ترخيص. منذ بناء الجدار أقيمت في حيّ وادي الحمّص مئات المنازل (بعضها في مبانٍ متعدّدة الطبقات) كما بُني مركز تجاريّ، مزرعة خيول وبرك سباحة. عدد قليل من المباني - التي أقيمت في مناطق A - بُني بعد أن حصل أصحاب الأرض على تراخيص بناء من السّلطة الفلسطينيّة. أمّا البُنى التحتية والتمديدات فقد نفّذها سكّان الحيّ بأنفسهم بما في ذلك الشوارع وخطوط المياه التي تصلهم من صور باهر وبيت ساحور.
في كانون الأوّل عام 2011 أي بعد مضيّ ستّ سنوات على بناء جدار الفصل في المنطقة أصدر الجيش أمرًا يمنع البناء على جانبي الجدار ضمن مقطع يتراوح عرضُه ما بين 100 و-300 متر. يزعم الجيش أنّه اقتضى إصدار هذا الأمر لأجل إنشاء "حيّز فصل مفتوح" ضروريّ لمقتضيات عمل الجيش حيث انّ منطقة وادي الحمّص تشكّل "نقطة ضعف" يسهل عبرها التسلّل من أراضي الضفّة إلى القدس. وفقًا لمعطيات الجيش كان عدد المباني المخالفة للقانون لدى صدور الأمر 134 مبنًى. منذ ذلك الحين أقيمت عشرات المباني الإضافيّة بحيث بلغ عدد المباني 231 - وفقًا لمعطيات منتصف 2019 - ومن ضمنها مبانٍ بطبقات عدّة أقيمت على بُعد عشرات الأمتار من الجدار وتتوزّع على مناطق مصنّفة A وB وC.
بعد مضيّ أربع سنوات وفي تشرين الثاني 2015 أعلن الجيش أنّه يعتزم هدم 15 مبنًى في حيّ وادي الحمّص. بعد مضيّ نحو السّنة - في كانون الأوّل 2016 - هدم الجيش في الحيّ ثلاثة مبانٍ أخرى. في عام 2017 رفعت جمعية "سانت إيف" التماسًا إلى محكمة العدل العليا باسم أصحاب وسكّان المباني الـ15 المهدّدة بالهدم. من بين ما جاء في الالتماس أنّ معظم هذه المباني أقيمت بعد الحصول على ترخيص بناء من السّلطة الفلسطينيّة وأنّه لم يكن لدى أصحاب وسكّان المنازل علم بالأمر الذي صدر في شأن منع البناء.
خلال جلسات مناقشة الالتماس وافق الجيش على إلغاء أمر الهدم لاثنين من المباني أمّا المباني الـ13 المتبقّية فقد أعلن الجيش أنّ الهدم في أربعة منها سيكون جزئيًّا فقط. في 11.6.19 قبلت محكمة العدل العليا موقف الدولة وأقرّت أنّه قانونيًّا لا يوجد ما يمنع هدم المباني.

سيرًا على خطى الدّولة، قبلت المحكمة العليا في قرارها الذي صاغه القاضي مني مزوز تأطير المسألة ضمن نطاق الأمن فقط. بذلك تجاهلت المحكمة تمامًا سياسة إسرائيل التي تمنع البناء الفلسطينيّ في شرقيّ القدس بشكل شبه تامّ، كما غضّت الطرْف عن الفوضى التخطيطيّة العارمة في "جّيب" وادي الحمّص التي أفسحت المجال لطفرة عمرانيّة في المنطقة حدثت وسلطات الدولة تعلم بها جيّدًا.
وكما في حالات سابقة كثيرة مماثلة لم يتناول القضاة في قرارهم السياسة الإسرائيليّة التي تمنع البناء الفلسطينيّ في شرقيّ القدس منعًا شبه تامّ بهدف فرض تفوّق ديمغرفيّ يهوديّ في المدينة - وهي عينها السياسة التي تُجبر السكّان على البناء بدون ترخيص. أزمة السّكن الحادّة والضائقة الشديدة التي يعانيها سكّان صور باهر - كما بقيّة الفلسطينيّين في شرقيّ القدس - هي أصلًا ما أدّى بلجنة صور باهر إلى رفع التماس مطالبة بإزاحة مسار جدار الفصل شرقًا. عوضًا عن ذلك، قرّر القضاة أنّ هدم المنازل مطلوب لاعتبارات أمنيّة حيث أنّ المباني التي تقام قريبًا من الجدار "قد تشكّل مخابئ لمنفّذي العمليّات أو لمن يمكثون بدون تصريح" ومنافذ "لتهريب السّلاح".
كذلك يوضح قرار المحكمة كم أنّ"نقل الصّلاحيّات" ليد السلطة الفلسطينيّة في مناطق A و B - الذي تمّ ضمن اتّفاقيّات الفترة الانتقاليّة - خالٍ من أيّ مضمون عمليّ ولا يخدم سوى الدّعاية الإسرائيليّة. تتذرّع إسرائيل بـ"نقل الصّلاحيّات" هذا لكي تنشر الوهْم بأنّ معظم سكّان الضفّة الغربيّة ليسوا واقعين تحت احتلال وأنّ الاحتلال عمليًّا قد انتهى؛ ولكنّها إذا لزم الأمر كما في هذه الحالة تزيح جانبًا أكذوبة "الإدارة الذاتيّة" وتطرح "الاعتبارات الأمنيّة" كذريعة لفرض سيطرتها التامّة على الأراضي كلّها وعلى السكّان.
ردّ القضاة بشيء من الاستهتار ادّعاء مقدّمي الالتماس بانّه لا علم لهم بالأمر الذي يمنعهم من البناء وأنّهم بنوا استنادًا إلى تراخيص بناء حصلوا عليها من السّلطة الفلسطينيّة. استنتج القضاة أنّ السكّان "وضعوا قانونًا خاصًّا بهم". ترى المحكمة أنّه كان على السكّان أن يعلموا بالأمر المذكور. في ذلك استند القضاة إلى ما طرحه ممثلو الدولة من حجج وتذرّعوا أيضًا ببنود في الأمر تقتضي العمل "ما أمكن" على تبليغ السكّان به بما في ذلك بواسطة تعليقه مع خرائط يصعب فهمها أعدّتها مديريّة التنسيق والارتباط بدرجة وضوح منخفضة. فعل القضاة ذلك ضمن تجاهُل تامّ للحقائق ذات الصّلة: لقد تجاهلوا أنّ الجيش لم يتّخذ أيّة خطوات لتبليغ السكّان بالأمر قبل تشرين الثاني 2015؛ وتجاهلوا أنّ الأمر صدر بعد بناء الجدار وبناء المباني بسنوات عدّة، بل أنّه قد مضت سنوات بعد صدور الأمر لم يتمّ فيها تطبيق الأمر؛ كما تجاهل القضاة أنّه لم يتمّ بذل أيّ جهد حقيقيّ لأجل التأكّد من أنّ السكّان علموا بوجود الأمر - لم يقم أحد حتى بأبسط الخطوات مثل تعليق نسخ من الأمر على منازل السكّان.
قرار المحكمة المذكور قد تكون له تبعات وآثار بعيدة المدى. هناك مبانٍ كثيرة أقيمت قرب الجدار في أماكن عديدة في شرقيّ القدس (مثال ضاحية البريد وكفر عقب ومخيّم شعفاط للّاجئين) وفي مناطق أخرى في الضفة الغربية (مثال الرّام وقلقيلية وطولكرم وقلنديا البلد). إضافة إلى ذلك، نتيجة لسياسة التخطيط الإسرائيليّة التي تمنع الفلسطينيّين من الحصول على تراخيص بناء أقيمت مبانٍ أخرى كثيرة بدون ترخيص لأنّه لا يوجد خيار آخر. قرار المحكمة الأخير يشرعن لإسرائيل هدم جميع هذه المباني وضمن ذلك يتيح لها التستّر من وراء "اعتبارات أمنيّة" لكي تواصل تطبيق سياستها المخالفة للقانون.

إفادة إسماعيل عبيديّة (42 عامًا) من سكّان وادي الحمّص وهو متزوّج وأب لخمسة أولاد:
أنا في الأصل من حيّ امليسون في جبل المكبّر. تزوّجت في عام 1998 وسكنت أنا وزوجتي في منزل مساحته 50 مترًا مربعًا. ولد لنا خمسة أولاد وبدأنا نعاني من الازدحام. شعرت أنّه لا بدّ لنا من إيجاد منزل أكبر.
في عام 2015 اشتريت قطعة أرض في وادي الحمّص وحصلت على ترخيص بناء من السّلطة الفلسطينيّة، حيث المنطقة مصنّفة A وتتبع لمحافظة بيت لحم. أقمت بيتًا من طابقين وكلّ منهما مساحه 300 متر مربّع. لا تزال هناك أعمال في الطابق الاوّل، ونحن نسكن في الطابق الثاني.
تسلّمنا أمر الهدم في عام 2016 ولا نزال مصدومين حتى الآن من رفض الاستئناف الذي قدّمناه للمحكمة العليا. جميعنا في وضع نفسيّ صعب منذ أن صدر قرار المحكمة. ينتابني الأرق فلا أغفو إلّا قبيل طلوع النّهار. طوال الوقت منشغل بالتفكير إلى أين نذهب بعد الهدم وماذا سنفعل وهذا ما يقلقني ويمنعني من النوم. حتى ابني، الذي يستعدّ لامتحانات التوجيهي في هذه السنة لا يستطيع أن يركّز في الدّراسة. يعلم الله إن كان سينجح في الامتحان.
اقترضت أموالًا كثيرة لكي أشتري الأرض وأبني البيت. أنا ملتزم بكثير من الدّيون وإذا هدموا المنزل فسوف أصبح معدمًا تمامًا. لا أعتقد أنّني سأتمكّن من الخروج من هذا الوضع فأنا عامل بسيط ومدخولي محدود جدًّا. سوف نضطرّ للدفع مقابل استئجار منزل وتسديد الدّيون في الوقت نفسه. حاليًّا أنا عاجز عن التفكير بمنطق ولا أستطيع التخطيط لحياتي ما بعد الهدم.
إفادة منذر أبو هدوان (42 عامًا) من سكّان وادي الحمّس وهو متزوّج وأب لخمسة أولاد:
تزوّجت في عام 2001. أنا في الأصل من مخيّم شعفاط للّاجئين. أولادنا الثلاثة وُلدوا هناك. لكنّنا لم نحتمل البقاء هناك بسبب الاكتظاظ وانعدام الأمن وتدهور وضع البنى التحتيّة هناك. أحسست أنّ مستقبل أولادي في خطر. إضافة إلى ذلك، كنّا نسكن في منزل مساحته 40 مترًا مربّعًا - غرفة واحدة مع مطبخ وحمّام وقد اكتظّ بنا المنزل فانتقلنا للسكن موقتًا في راس العمود في منزل مساحته 50 مترًا مربّعًا لكنّه أفضل ممّا في المخيّم.
بحثنا - أنا وأبي وإخوتي - عن مكان رخيص لكي نبني فيه، ووجدنا ضالّتنا في وادي الحمّص. اشتريت الأرض وحصلنا على تراخيص بناء من السلطة في بيت لحم لأنّ الأرض تابعة لمنطقة A في الضفة الغربيّة. بنينا طابقين، طابق موقف للسيّارات وفوقه طابق فيه شقّتان. كنّا نخطّط لبناء طابق ثالث يشمل شقّتين لأخويّ أشرف وأحمد.
أمر الهدم الذي أصدرته الإدارة المدنيّة قضى على آمالنا وحطّم حلمنا بالاستقرار هنا. جاء في الأمر أنّ علينا هدم البيت بأنفسنا حتى تاريخ 18.7.19. منذ ذلك الحين ونحن نعيش في توتّر ولا نستطيع التفكير في أيّ أمر آخر. كلّما نظرت إلى أولادي ينتابني الحزن. إلى أين سنذهب بعد الهدم؟ لا أدري! ربّما إلى الشّارع.
أنا إنسان فقير. أعمل مياومة كعامل بناء وبالكاد أتمكّن من إعالة أسرتي. لا أستطيع استئجار منزل حتى لو كان بدل الإيجار 500 دولار شهريًّا. أعتقد أنّه لن يكون لدينا خيار بعد الهدم سوى إقامة خيمة على أنقاض منزلنا والسّكن فيها. لدينا خمسة أولاد: أسامة، 17 عامًا؛ عبد الرّحمن، 15 عامًا؛ إيمان، 13 عامًا؛ آدم، 8 أعوام؛ وأدهم سنة و-9 أشهر. كلّما رأى أولادي مركبة عسكريّة تصل إلى وادي الحمّص يعتقدون أنّ ساعة الهدم قد آنت فيصيبهم الذّعر. إنّهم يعيشون الآن في قلق وخوف وأذهانهم مشوّشة.