في جميع المناطق التي تسيطر عليها إسرائيل – بين النهر والبحر – هناك نظام واحد يسعى إلى تحقيق وإدامة تفوّق جماعة من البشر (اليهود) على جماعة أخرى (الفلسطينيين). هذا نظام أبرتهايد على عكس الاعتقاد السّائد بأن إسرائيل دولة ديمقراطية تدير نظام احتلال مؤقت. لممارسة التفوّق اليهودي يستخدم النظام الحاكم في إسرائيل وسيلة هندسة الحيّز جغرافيا وديموغرافيا وسياسيا. هكذا وحين يمارس اليهود حياتهم في حيّز واحد متتابع ينعمون فيه بحقوق كاملة وبالحق في تقرير المصير، يعيش الفلسطينيون في حيز مفكك لوحدات مختلفة تحظى كل منها بحقوق منتقصة مقارنة بتلك التي ينعم بها اليهود.
معتز جعفر حمد (25 عاما) اعتقل في أيار 2019. في كانون الثاني 2020 أدين في إطار صفقة ادعاء بإلقاء زجاجة حارقة في 2018 وحُكم عليه بالسجن عشرين شهرًا. بعد ذلك بنحو ثمانية أشهر تبيّن بأنه في ذلك الحين كان يقضي عقوبة أخرى بالسجن. رفضت النيابة إسقاط الإدانة وفي نهاية الأمر وافق الطرفان على إطلاق سراحه فورًا وذلك بعد أن أمضى 17 شهرًا في السجن ولكن لن تتم تبرئته. يتبدّى من خلال هذه القضية الأداء الرّوتينيّ لجهاز المحاكم العسكريّة: ضحالة الموادّ التي تستند إليها النيابة والدّور شبه الهامشيّ الذي يقوم به القضاة والأهمّ: تنحية الحقيقة جانباً خلال سير إجراءات المحاكمة واستغناء النيابة والقضاة عن أيّة أدلّة لدى إدانة المتّهم.
منذ 2015 لا يمر شهر تقريبًا لا تحتجز فيه إسرائيل قاصرين فلسطينيين ضمن الاعتقال الإداري. في نهاية كانون الأول 2019 كانت إسرائيل تحتجز أربعة قاصرين إداريا. ينتهك جهاز القضاء العسكري بصورة ثابتة حقوق القاصرين الفلسطينيين الذين يتم اعتقالهم من قبل الجيش ويكتشفون أنهم يواجهون هذا منفردين دون أن يشرح لهم أحد ما هي حقوقهم وماذا سيكون مصيرهم مستقبلا. يجري هذا كله ضمن خلق حالة كاذبة من الدفاع الظاهري عن حقوقهم. ويضاف إلى هذا كله في الاعتقال الإداري انعدام اليقين بخصوص موعد الإفراج. سجّل باحثو بتسيلم الميدانيون إفادات حول ثلاثة قاصرين حيث ما يزال اثنان منهم يقبعون اليوم في الاعتقال الإداري بينما أطلق سراح الثالث في مستهل شهر كانون الثاني من هذا العام.
تستخدم إسرائيل نوعين من الإجراءات لزجّ فلسطينيّي الضفة الغربية في السّجون: الإجراء الجنائيّ والإجراء الإداريّ ويُفترض أنّهما يختلفان شكليًّا لكنّ الفرق في الواقع الفعليّ أقلّ من الفرق الشكليّ، لأنّه في الحالتين لا وجود لإجراء قضائيّ حقيقيّ. الفرق الأساسيّ بينهما هو أنّه في الإجراء الجنائيّ يكون تاريخ الإفراج معروفًا منذ صدور الحُكم القضائيّ بينما في الإجراء الإداريّ يمكن تمديد فترة الاعتقال مرارًا وتكرارًا. ومع ذلك، يبيّن تحقيق بتسيلم في خمس حالات من العامين الماضيين ألغى الجيش حتى هذا الفرق وحوّل الأسرى في يوم انتهاء محكوميّتهم إلى الاعتقال الإداري.
تعتقل إسرائيل في كلّ سنة مئات القاصرين الفلسطينيين وتنتهك حقوقهم بعمليّة منهجيّة وبأداء منظومة مكرّسة طوال العملية: بدءًا بالاعتقال ومرورًا بالتحقيق وانتهاءً بالمحاكمة أمام المحكمة العسكرية للشبيبة. هذه العملية يخضع لها القاصرون وهم وحيدون تمامًا ومعزولون عن أُسرهم ودون أيّة مشورة قانونيّة. تفاخر الدولة بتغييرات أجرتها في السنوات الأخيرة على جهاز القضاء العسكري للشبيبة وتدّعي انّها حسّنت كثيرًا الحماية المستحقّة للقاصرين خلال الإجراءات المتّخذة في حقّهم. لكنّ هذه التغييرات - من حيث هي شكليّة لا أكثر لم تحصّن في الواقع حقوق القاصرين بل أضفت الشرعية على جهاز القضاء العسكريّ خاصّة ونظام الاحتلال عامّة.
في تاريخ 13/6/2016 أنهى بلال كايد قضاء عقوبة السجن لمدة 14 عاما ونصف، التي حكمت عليه المحكمة العسكرية بها. بينما كان أفراد أسرته ينتظرون عودته أبلغوا بأنه لن يتم الإفراج عنه وإنّما سيتم تحويله للاعتقال الإداري لمدة ستة أشهر. ويستند الاعتقال الإداري على "أدلة" سريّة لا يعرفها المعتقل ولا يمكنه دحضها ولا يتحدّد بالوقت. منذ سنوات طويلة تستخدم إسرائيل هذا الإجراء الوحشيّ بشكل ساحق، ولكن حتى في هذا الواقع القاسي، فإنّ الاعتقال الإداريّ لشخص انتهى لتوه من قضاء عقوبة سجن طويلة هي خطوة استثنائية في شدّتها. القضاة العسكريون ـ الّذين هم جزء لا يتجزأ من آلية الاحتلال ـ صادقوا في هذه الحالة على أمر الاعتقال.
في تاريخ 9/2/2016 وصلت الفتاة د.و. البالغة من العمر 12 عامًا وشهرين، إلى مدخل مستوطنة "كرمي تسور"، وهي تخفي سكيناً في ملابسها. تم القبض عليها واعتقالها. بعد مرور تسعة أيام، وقّعت د. على صفقة تسوية، أدينَت بالشروع في القتل وحُكم عليها بالسجن لمدة أربعة أشهر ونصف. كان ذلك في نهاية إجراء اجتازته لوحدها تمامًا، دون مطالبة النيابة تقديم ولو دليل واحد لإثبات التهمة عليها. يدور الحديث عن حالة استثنائية، ولكنها تعكس بالتحديد الطريقة التي يدوس فيها نظام القضاء العسكري على حقوق المتهمين الماثلين للمحاكمة أمامها ـ حتى عندما يتعلق الأمر بفتاة تبلغ من العمر 12 عاما وشهرين ـ وبدلا من أن تأخذ العدالة مجراها، فإنّه يدأب على الحفاظ على نظام حكم الاحتلال.
الحرمان من النوم، التكبيل لفترات طويلة، العنف اللفظي والجسدي أحيانًا. التعرض للبرد والحرارة، توفير النزر اليسير من الطعام المتردّي؛ الزنازين المنبعثة منها رائحة كريهة، العزل، والنظافة المتدنيّة. هكذا يبدو التحقيق العادي في مقرّ جهاز الامن العام (الشاباك) في سجن “شيكما” كما يُبيّن تقرير جديد صادر عن هموكيد ـ مركز الدفاع عن الفرد ومنظّمة بتسيلم. يستند التقرير على شهادات وإفادات قدّمها 116 سجينًا أمنيًا فلسطينيًا تم التحقيق معهم في الفترة ما بين آب 2013 وأذار 2014. 14 شخصا منهم على الاقل تمّ التحقيق معهم تحت وطأة التعذيب الممارس من قبل السلطة الفلسطينية قبلها بفترة وجيزة. يتمّ تفعيل هذا النظام من تحقيقات جهاز الامن العام (الشاباك) بمصادقة سلطات الدولة، بما في ذلك محكمة العدل العليا.
يشير تقرير بتسيلم الذي ينشر اليوم إلى أنّ الاعتقال حتى انتهاء الإجراءات هو القاعدة بما يخص المتهمين الفلسطينيّين وليس الاستثناء، وهو السبب الأساسيّ بأنّ غالبيّة الإجراءات تنتهي بصفقات ادّعاء ومن وراء نسب الإدانات الهائلة. يبدو في ظاهر الأمر أنّ المحاكم العسكريّة تعمل كمحاكم عاديّة: فهناك مُدّعٍ ومحامي دفاع؛ هناك إجراءات قانونيّة وقوانين ونُظم وهناك قضاة يكتبون قرارات حكم بلغة قضائيّة منمّقة. لكن ومن وراء هذه الواجهة القانونية تنشط إحدى أكثر منظومات الاحتلال ضررًا وانتهاكًا. فأحكام القضاء الإسرائيليّ التي تسري ظاهريًّا على المحاكم العسكرية أفرغت في واقع الأمر من أيّ مضمون وهي تُستخدم أساسًا لتبييض صورة الجهاز القضائيّ العسكريّ.
يكمن في جوهر نظام الاحتلال الإسرائيلي انتهاك منهجيّ لحقوق الإنسان. تعمل بتسيلم لأجل إنهاء الاحتلال، إدراكًا منها أنّه بهذه الطريقة فقط يمكن تحقيق مستقبل يضمن حقوق الإنسان، الديمقراطية، الحرّية والمساواة لجميع الأفراد - فلسطينيين وإسرائيليين - القاطنين بين النهر والبحر.